الأربعاء، 22 يونيو 2011

فلسطين والقدس في زمن العهد الاسلامي


الفصل الرابع

كانت مدينة القدس هي مركز الكنيسة المسيحية في القرن الاول للميلاد، بسبب الكرامة التي حظيت بها كونها شهدت موت السيد المسيح وقيامه، ولأنها كانت أيضا مركز العصر الرسولي. غيرأن الأهمية السياسية للمدينة انحدرت في القرن الثاني للميلاد عندما تعرّض الرسل لهجمات عنيفة أودت بحياة معظمهم ومن لم يقتل أو يسجن فرّ الى البلاد المجاورة.

عمد اليهود والمسيحيون الاوائل في بداية الديانة الجديدة الى الصلاة جنبا الى جنب، ولم يكن الرومان يميّزون بينهم ربما بسبب النظام الضريبي المتّبع والذي لم يكن يفرّق بين مواطن وآخر.
ولم تتمكن "أرض كنعان" الموصوفة في الكتاب المقدس بـ "الارض المقدسة" من استعادة امتيازتها الدينية والسياسية حتى قامت الامبراطورة "هيلانة" (القديسة هيلانة)  قرينة الامبراطور "قسطانطينوس"، ووالدة الامبراطور" قسطانطين الاول"، بزيارة حج الى المدينة المقدسة، حيث أكرموها هناك بسبب ما قيل عن اكتشافها لبقايا الصليب الحقيقي الذي صلب عليه المسيح.

لاحقا أصبحت مدينة روما أهم مركز كنسي في الغرب وبقيت مدينة أنطاكية أهم مركز كنسي في الشرق.

كانت مدينة (إديسا) وتعرف اليوم بإسم "الراحة" أو "أورفا" ( وهي تقع في جنوب شرق تركيا على نهر الفرات)، موقعا استراتيجيا لربطها الطرق التجارية لمنطقة الهلال الخصيب، وكانت ممرا لمدينة أنطاكيا التي انطلقت منها مهمات الرسل، والتي وجد فيها المسيحيون الاوائل ملاذا يحميهم. وخلال وقت قصير زاد عدد المسيحيين في أنطاكيا وصارت المسيحية دين الدولة الجديد.

ومن أنطاكيا بدأ المبشرين رحلاتهم للتبشير، فانتشر الدين المسيحي الجديد في انحاء بلاد ما بين النهرين، وفارس وآسيا الوسطى وصولا الى الصين.

وفي القرن السادس للميلاد حلّت الامبراطورية البيزنطية محل الامبراطورية الرومانية واعتبرت امتدادا لها. وفي عام 532 للميلاد أُنشأت الكنيسة الثانية "للحكمة المقدسة" (آيا صوفيا) في مدينة القسطنطينية (اسطنمول) في عهد الامبراطور "جوستينيانوس الاول". وكان قد تم تدمير الكنيسة الاولى اثناء الانتفاضات الشعبية التي شهدتها المدينة. وأصبحت كنيسة "آيا صوفيا" مركز المجمّع الكنسي لحكام الامبراطورية البيزنطية أو الامبراطورية الرومانية الشرقية.

أما في شبه الجزيرة العربية، فقد وجدت المسيحية حضنا دافئا وموقع قدم مهم في مملكة شيبا (اليمن)، وتشتهر تلك المملكة بأن ملكتها قامت بزيارة تاريخية الى الملك سليمان كان لها دلالات دينية وسياسية، كما أن المسيحيين انتشروا أيضا في بلاد الحبشة – "أرض حام".

شهد القرن السابع للميلاد مولد الاسلام في مكة المكرمة في شبه الجزيرة العربية، على يدي الرسول محمد بن عبد الله.
ولم يعارض هذا الدين الجديد الديانات التوحيدية وخصوصا اليهودية والمسيحية، بل على العكس أثبتها وأقرّ بها وقال أنه تكملة لها، وأن النبي العربي هو خاتم الانبياء.
غير أن الاسلام أضاف تعاليم ومعتقدات ونظرة جديدة الى الايمان.

استطاع النبي والرسول العربي توحيد كافة اقطار شبه الجزيرة العربية تحت راية الاسلام، وصارت كلها تدين بالدين الجديد وتخضع لحكمه بما فيها مملكتي اليمن والحبشة المسيحيتين.
وبدأت الفتوحات الاسلامية تتمدد الى ما بعد حدود شبه الجزيرة العربية.

كانت الامبراطورة الرومانية خلال تلك الفترة قد أنهت حروبها مع المملكة الساسانية فطوت بذلك حقبة قاسية دامت عقودا عدّة شهدت معارك متواصلة أنهكت الطرفين وشلّت قدراتهما العسكرية، مما سمح للمسلمين التغلب عليهما تباعا.

أحيا المسلمون عبارة "الدين الحنيف" التي تشير الى حقبة ما قبل الديانات اليهودية والمسيحية. وأراد المسلمون بهذه العبارة أن يمّيزوا بين عصر الجاهلية الذي كان يسود قبل الاسلام وبين العصر الاسلامي الجديد. ودعموا حجتهم بأن الدين الحنيف هو الدين الذي لا يقبل الشرك بالله وعبادة الاوثان، وهو دين يرجع بالزمن الى النبي ابراهيم الذي حارب الاوثان وحطّمها، معلنين أن ابرهيم لم يكن يهوديا أو نصرانيا انما كان حنيفا مسلما، بل انه هو وابنه اسماعيل هما أول المسلمين.

ويقول المسلمون ان ابراهيم وابنه اسماعيل هما اللذان بنيا الكعبة في مكة، وعلى وقع قدم اسماعيل نبعت "مياه زمزم"، وان ابراهيم واسماعيل هما وسلالتهما هم أجداد العرب المباشرين.

يرفض المسيحيون مقولة ان ابراهيم كان على الدين الحنيف، ولا يقبلون ان أتباع الدين الحنيف هم أتباع ابراهيم وأنهم من سلالته.

ما أن توفي النبي محمد، حتى بدأت جيوش المسلمين بغزو البلاد المجاورة لضمّها الى الامة الاسلامية،  فغزت ايران وسواحل بلاد الشام ومصر، وصارت كل تلك البلاد تحت الراية الاسلامية في عام 642 للميلاد.

وفي القرن الثامن للميلاد استطاع المسلمون الوصول الى شمالي افريقيا، اسبانيا، البرتغال في الغرب والهند في الشرق حتى اندونيسيا وصارت كل تلك البلاد بلادا اسلامية.

في تلك الفترة كانت مدينة بغداد تتقدم بخطى ثابتة لتصبح عاصمة المعرفة واستطاعت جمع أعمالا تاريخية وجغرافية وعلمية قيّمة من كتب ومخطوطات لعلماء رومان وإغريق.

انهارت الامبراطوريتان البيزنطية والساسانية تحت وطأة الفتوحات الاسلامية، التي استرجعت بلاد مصر وفلسطين وسوريا. وبذلك انتهت السيطرة السياسية والاجتماعية لليهود كما انتهى النفوذ اليهودي على تلك المنطقة.

كان الرسول العربي قبل وفاته قد أمر بتجهيز حملة كبيرة ضد الامبراطورية الرومانية. وعزم خليفته الاول أبو بكر الصديق على تنفيذ أوامر النبي، وأمر الجيش بالتوجه لكسر الشوكة الرومانية في منطقة ما بين النهرين، برغم انتفاضات القبائل والعشائر على الدين الجديد، والتي باتت تهدد بانقسام جيش المسلمين. غير أن أبا بكر استطاع أن يقمع تلك الانتفاضات ويسيطر على كل القبائل وارجاعها تحت كنف الاسلام (حروب الردة).

حمل جيش المسلمين على العرب المسيحيين من بني كلب وبني غسان، ثم واصل حملاته داخل العراق ليقهر الجيش الساساني. وقبل أن يدخل المسلمون بلاد ما بين النهرين، حسم الجيش بقيادة خالد بن الوليد، معارك السلاسل واليمامة والنهر والولاية، وهي معارك تاريخية ثّبتت راية المسلمين وسهّلت لهم مهمتهم داخل المنطقة.

وبعد موت أبي بكر الصديق استلم عمر بن الخطاب زمام الخلافة وتابع عمل سلفه لفتح بلاد ما بين النهرين وسوريا. واشتبك جيشه مع الجيش الفارسي في القادسية بمعركة تاريخية أنهت الحكم الساساني غرب فارس. بعدها مشى جيش الاسلام ليحتل بابل وبهرشار والمدائن. وفي عام 638 أصبح وادي دجلة والفرات تحت السيطرة الكاملة للمسلمين.
وتعتبر معركة "النهوند" من أكبر المعارك الفيصلية الحاسمة في تاريخ الاسلام، لأنها فتحت الطريق أمام جيش المسلمين ليدخل جميع بلاد فارس وتصبح كلها جزءا من الامة الاسلامية.

كان الرومان عندما احتلوا "أرض كنعان" وسيطروا عليها، أخضعوا مدينة القدس لقوانينهم،  وألغوا تسمية المنطقة "بأرض كنعان"، وأطلقوا عليها اسم بلاد فلسطين، كما أطلقوا على الاراضي المجاورة بما فيها النجف وسينا والساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية اسم "جوار فلسطين" أو "فلسطين 3" .

في ذلك الوقت كانت سوريا مقسّمة الى قسمين: سوريا الاقليم من أنطاكية الى حلب في الشمال وحتى البحر الميت في الجنوب. وفلسطين بما فيها الاماكن المقدسة للديانات الابراهيمية الثلاث.
وكان جزء كبير من سوريا أرضا عربية، وسكّانه العرب متواجدون منذ التاريخ.
وكان اقليم سوريا بغاية الاهمية السياسية والتجارية والدينية، الى ان نزحت اليه قبيلة غسان من اليمن، وأقاموا هناك مملكة غسان. وحكم الغساسنة المنطقة في ظل الامبراطورية الرومانية، وكانت تسيطر على عرب الاردن وجنوب سوريا من عاصمتها بورصة وهي اليوم من ضمن محافظة  "درعا" السورية.
عندما عزم المسلمون على فتح الشام، أراد قائد الجيش خالد بن الوليد بدهائه العسكري أن يتجنب طريق بلاد ما بين النهرين، وذلك بسبب المحميات الرومانية المتواجدة في شمالي البلاد. فشقّ جيشه طريقا في الصحراء السورية وفاجأ الجيش البيزنطي شمال سوريا وشلّ قدراته الدفاعية.
وبعد احتلاله عدة مدن في شمال سوريا واصل تقّدمه جنوبا نحو مدينة "دمشق" الى انه قرر تجاوزها ليصل الى مدينة "بورصة" عاصمة الغساسنة ويقهرهم فيها، واستسلمت له المدينة عام 634.
بعدها توجه خالد ليدحر الجيش البيزنطي ويحتل دمشق فدخلها بعد حصار دام ثلاثين يوما.

ولمّا استتبّ الامر للمسلمين في سوريا، تقدّم الجيش نحو فلسطين واحتل نابلس وغزة، وأمر عمر بن الخطاب باحتلال كافة مدن ساحل شرق البحر الابيض المتوسط، فسقطت عكا وصور وصيدا وعرقة وجبيل وبيروت تباعا.
وفي عام 635 كانت فلسطين والاردن وجنوب سوريا بيد المسلمين باستثناء مدينة القدس.

تعتبر معركة اليرموك بين الجيش الاسلامي والجيش البيزنطي معركة تاريخية فاصلة، حسم بها المسلمون قدرالامبراطورية البيزنطية فأنهوها عسكريا وسياسيا، ولم تستطع النهوض فترة طويلة بعد تلك المعركة، ما جعل كل البلاد البيزنطية تحت التهديد المباشر للغزو الاسلامي.

وعندما قرّر المسلمون دخول القدس، وافق حكّامها على الاستسلام دون معركة، غير انهم رفضوا تسليم المدينة للجيش، وأصروا على تسليمها الى الخليفة عمر شخصيا  الذي حضر من المدينة المنوّرة لاستلام مفاتيح القدس.

بعدها توجّه الجيش الاسلامي الى مدينة حلب ثم انطاكيا وعزلهما عن بلاد الاناضول. فاستسلمت أنطاكية بسهولة وتحرّك الجيش ليأخذ اللاذقية وجبلة وحمص وطرطوس وساحل لبنان الشمالي.

وعندما قرّر قسطنطين فيما بعد اعادة الاعتبار للامبراطورية البيزنطية، توجه بجيش كبير ليستعيد سوريا ولبنان، الاّ ان والي الشام في تلك الاثناء معاوية بن أبي سفيان، أرسل سفنه العسكرية الى قبرص وكريت ورودس وشن من تلك القواعد غارات متواصلة على غرب الاناضول معرقلا بذلك أي تقدم للجيش البيزنطي نحو سوريا.

قسّم المسلون بلاد الشام الى أربعة أقسام عسكرية: 1- جند دمشق الشام 2- جند حمص 3– جند الاردن 4- جند فلسطين. ولاحقا زادوا مقاطعة خامسة أسموها جند قنّسرين.
وكان "جند فلسطين" يوازي تقريبا المساحة الي أطلق عليها الرومان "فلسطين 1" التي تشمل يهودا، وفليستيا، وجنوب الاردن.
و"فلسطين 2 " التي تشمل سماريا والجليل والجولان وشمال الاردن. وكان هذا التقسيم أيضا لتسهيل الجباية الضريبية.

عندما دخل المسلمون بلاد الشام وفلسطين حافظوا على اليهود والمسيحيين فيها، الذين كانوا مضطهدين تحت الحكم الروماني. ولم يوافق الخليفة عمر على طلب بطرك كنيسة القدس أن يصلّي في كنيسة القيامة خوفا من أن يطمع المسلمون فيما بعد بهدّ الكنيسة وبناء جامع لأن عمر صلى فيها. ولكنه توجّه الى جبل المعبد الذي فيه ركام معبد سليمان بعد أن دمّره الرومان، وأمر ببناء" مسجد الاقصى" على جبل المعبد ايمانا منه بأنه المكان المذكور في القرآن والذي اليه أسرى نبي المسلمين من مكة ومنه عرج الى السماء في رحلة اعجازية استغرقت ثواني قليلة بحساب قياس وقت الانسان.
كما يوجد في نفس المكان "قبة الصخراء" التي يعتقد انها الصخرة التي صعد من فوقها محمد ليعرج الى السماء.

وفي عام 639 غزا المسلمون بقيادة عمر بن العاص مصر. ونصره هناك فئة من المسيحيين "الموحدّين" الذين يؤمنون أن المسيح ليس له سوى خصوصية واحدة وهو انه انسان مقدس نبي ورسول، وليس ربا مقدّسا. وكان هؤلاء مضطهدين من السلطات الكاثوليكية. كما نصره ايضا فلاحون مصر الذين كان أغنياء اليونان يستعبدونهم ويسخرونهم لزراعة اراضيهم.

وفي عام 642 سقطت مدينة الاسكندرية على أيدي المسلمين وهرب البيزنطيون من مصر، ووهب المسلمون المسيحيون حرية العبادة واعادوا بناء كنائسهم.
عام 646 سيطر المسلمون على كافة أنحاء القطر المصري وحوّلوا مصر الى ولاية اسلامية، ففرضوا فيها ضرائب محلية، تعود بالنفع على البلاد وسمحوا للمصريين بالسيطرة على اراضيهم الزراعية واستثمار خيراتها.

يعتبر المسلمون أنفسهم السلالة الطبيعية لابراهيم وموسى وعيسى وبقية الرسل والانبياء. ولهذا السبب تعتبر فلسطين التي هي ارض القداسات فائقة الاهمية عندهم.

وعند دخول جيش المسلمين لفلسطين استقبله اليهود والنصارى وخصوصا النصارى الموحدين، بترحاب كبير بعد ان ارهقهم ظلم القوى التي سيطرت على المنطقة لفترة طويلة من الزمن.

وحظي اليهود خصوصا بحرّية استثنائية تحت الحكم الاسلامي لم ينالوها في أي مكان من العالم. إذ منحهم المسلمون حكما ذاتيا في فلسطين، وسمحوا لهم تطبيق معتقداتهم الدينية في قوانينهم الخاصة فيما بينهم وفي مجتمعاتهم. وحصل عدد كبير من اليهود والنصارى على مراكز ووظائف مهمة في البلاد التي بقيت تحت الحكم الاسلامي على مدى حكم عديد كبير من الملوك والسلاطين المسلمين.
وأهم من كل ذلك، رفع المسلمون القيود التي وضعها الرومان والبيزنطيون على اليهود وثبّتوا لهم حقهم في زيارة القدس والسكن فيها.

سامي الشرقاوي

ليست هناك تعليقات: