الثلاثاء، 21 يونيو 2011

مهد الحضارات بين الدين والتاريخ


الفصل الاول
 بعد اللمحة الموجزة عن ماضي منطقة ما بين النهرين، والسؤال ما اذا كان هناك ما يدل على اوجه تشابه بين زمان وحاضرنا الآن. وبعد الاستنتاج بأن هنالك محاولات حثيثة لتقسيم المنطقة الى اراضي ديموغرافية تستجلب الماضي الى الحاضر وتحضّره لمستقبل ما، لم تتضح معالمه بعد. 
يبقى السؤال؛ كيف تتم هذه المحاولات؟
قبل الاجابة سنتوقّف قليلا عند محطات مهمّة في تاريخنا المعروف (أو كما نعرفه)، ونبدأ بالمحطة الاولى عند آدم وحواء أول أجدادنا.
تتطابق القصص الدينية والتاريخية، أنهما بعد الخلق، عصيا الخالق، فحقّت عليهما عقوبة الهبوط الى الارض والمعاشرة الجنسية وانجاب الذرية التي بدأت بشقيقين توأمين قتل أحدهما الآخر ليسجّّل أول جريمة في التاريخ.
في المحطة الثانية، وهي لا تبعد كثيرا بالسنين من المحطة الاولى، نرى ادريس (أينوخ) الذي لم يكن فقط نبيا ورسولا، بل أيضا عالما ومعلما أطلق عليه الفراعنة اسم "هرمس الهرامسة" بمعنى استاذ الاساتذة، لانه هو الذي أوجد العلم والمعرفة وعلّمها لسائر البشر.
وفي رأيي المتواضع أن المذكور في القرآن عن ادريس "ورفعناه مكانا عليا"، ليس المقصود به جنة رابعة او خامسة، بل رفعة في المنصب، ورقي في التراتبية البشرية، في اشارة لما كان لهذا الرجل الفضل الرئيس لتعليم البشر كل انواع العلوم والمعرفة، التي أوصلتهم الى حضارات متقدّمة ومزدهرة، بعد ان عرفوا كيف يطوّعوا العلم ليستمرّوا في الحياة.
تصوّروا كيف سيكون حالنا اليوم اذا لم يبدأ البشر بتلقّي العلوم عند نقطة معيّنة؟
هذه النقطة المعيّنة كانت ادريس.
المحطة الثالثة هي عند نوح، الذي عاش في منطقة ما بين النهرين، واشتهر بأنه بنى السفينة التي انقذت الحيوانات وبعض البشر من الطوفان. وقد أكّدت كل الكتب والمراجع الدينية والتاريخية انه كان له على الاقل ثلاثة اولاد نجوا معه من الطوفان هم: يافث، حام وسام.
يذكر كتاب العهد القديم ان نوحاً بارك ولده سام ودعا الله ان يزيد في ذرية يافث، وأن يبقى بحماية سام، وأن يكون كنعان ابن حام خادما ابديا لهما ولذريّتهما!
يروي التلمود تفاصيل اكثر عن دعوة نوح تلك، ويستخلص ان سبب النقمة على حام وولده كنعان، ان حام شاهد والده يمارس الجنس مع زوجته، أو انه هو مارس الجنس مع زوجة ابيه نوح. في كل الاحوال، نرى ان هذه الدعوة من وجهة دينية واحدة قسّمت البشر الى أسياد وعبيد.

بعد الطوفان توجّه يافث نحو ارض الاناضول (تركيا) حيث استقرهناك ثم انتشر شمالا، ومن ذريته تناسلت الترك والقبجاق والتتر والغز أو السلاجقة والهياطلة والخلج والشركس والخزر والصقالبة والصين والأفرنج والقوط واليونان ويأجوج ومأجوج .
وانتشرت هذه الامم في بلاد شمالي ايران، ارمينيا وروسيا والشرق الادنى والاقصى. كما استمروا في الانتشار في كل الاراضي الشرقية والغربية والشمالية لاوروبا ، ومنهم من تابع جنوبا نحو فرنسا واسبانيا وايطاليا والجزر اليونانية.
يذكر التوراة سبعة اولاد ليافث، نهضت منهم الامم التالية نذكر أهمها:
جومر: ومنه الارمن، الولش، الايرلنديين، الجرمان، الترك وغيرهم.
ماغوغ: ومنه الصرب، المونغول، الفنلند، الباميريس، الباشتان وغيرهم.
مازاي ومنه الهنود، الفرس، الطاجيك، التاتار وغيرهم.
ياوان ومنه اليونان (الايونيان).
توبال: ومنه الجورجيون، الايطاليون، الايبيرانيون(الاسبان)، الباسك وغيرهم.
تيراس: ومنه البلغار، الغجر، التوتان وغيرهم.
ماشيك: ومنه القوقاز، الروس، الافرنج وغيرهم.

من حام جاءت شعوب إفريقيا في شمالها ومنهم أبناء الفراعنة المصريين و الأقباط و البربرة والامازيغ والسودان والهند والسند بباكستان والاحباش وأهل زنجبار وبقية بلاد جنوب ووسط إفريقيا، وسلالة كنعان الذين سكنوا فلسطين منذ الماضي الى هذا العصر.

والانجيل يصف مصر بأنه ارض حام. ليصبح حام هو الجد الاول للعرق الحامي Hamitic Race، وكان له اربعة اولاد ذكور منهم نشأت الامم نذكر أهمها:
كوش: وكان له مصر، اليمن، ارتيريا، الحبشة، الصومال، السعودية العربية، بابل وغيرها.
فوث: الذي توجّه الى افريقيا.
ميصرائيم: انتشر في مصر، تيبيا، فلسطين، كريت وقبرص.
وكنعان: الذي استوطن لبنان وسوريا وفلسطين (بلاد الفينيقيين)، الاناضول، الاردن.


يشير العهد الحديث ان كنعان تمرّد على ابيه حام، ورفض الرحيل معه الى افريقيا، وتوجه ليستوطن شواطيء البحر المتوسط، معتبرا نفسه شريكا (متمرّدا ربما على لعنة نوح) في ارث سام الذي استقر في تلك الاراضي التي وصفت فيما بعد بأن الله وعد بها ابراهيم وذريته؟
ومن كنعان كانت فروع أنشأت امما وحضارات لها وزنها في المنطقة ومنهم:
الحيثيون الذين استملكوا الاناضول.
الحوبيون واليبوسيون الذين استوطنوا الاراضي حول مدينة القدس قبل ان توجد.
الآموريين: عاشوا ما بين الاردن وسوريا وجزء من السعودية العربية.
الجرجان الذين أخذوا دلتا النيل في مصر.
العكاريون وعاشوا في بلاد عكار (لبنان).
السينيون الذين استوطنوا في صحراء سيناء.
الارواديون الذين استملكوا جزيرة ارواد (سوريا).
الدمّريون وهم أهل دمّر (سوريا).
والحمويون وهم أهل حماة (سوريا).

الابن الثالث هو سام وفيه النبوة ومنه العرب والآشوريون والسريان والفرس والكرد والنبط والأرمن وبنى مدين وبنى يعقوب.
من سام جاء العرب البائدة: عاد و ثمود و الأنباط و طسم و جديس و عبد ضخم و أميم و العمالقة و جرهم و قطوراء و مدين.
و العرب الباقية: العاربة و هم قحطان سكان أرض اليمن
و العرب الباقية المستعربة: و هم العدنانيين نسل إسماعيل بن إبراهيم.
و جاءت أمم أخرى مثل الفرس والبلوش في باكستان بإقليم بلوشستان، والسومريين و البابليين و الآشوريين و الفينيقيين و الآراميين و بني إسرائيل و الروم بني الأصفر و عمون و مؤاب .
ومواطن سلالة سام بن نوح – عليه السلام - هي بلاد الشام و العراق و إيران و الجزيرة العربية واليمن و عمان و بلوشستان في باكستان.
يعرف سام بأنه الجد الاول للعرق السامي Semitic Race. ويعتبره اليهود انه الاب الاول لهم لأنه والد أرفخشد الذي من نسله جاء الشعب اليهودي. وكان له خمسة اولاد ذكور منهم ولدت امم وحضارات عريقة أهمها:
عيلام: الذي استوطن كازيستان وايران.
آشور: الذي انتشر في بلاد العراق.
أرفخشد: الذي استملك العراق/بابل، تركيا، سوريا، لبنان وبعض الاردن والسعودية.
لاوذ: الذي سكن بلاد الاناضول. 
وآرام: الذي سكن في العراق وسوريا.

يعتبر معظم المؤرخين والعلماء ان اولاد سام الخمسة هم المؤسسون للحضارات الآشورية والسومرية والاكادية والكلدانية والليدية الايرانية. ويعتقد بعض العلماء ان ذرية سام هي التي انشأت الامم الاوروبية وليس يافث. والمؤرخ الاسلامي "الطبري" يؤمن بأن اليونان هم من سلالة سام.
أمّا أرفخشد الذي هو ابو اليهود فله ثلاثة ابناء ذكور هم:
كنيعان: الذي لسبب مجهول أسقط اليهود اسمه من لائحتهم الوراثية.
شالخ: ويجوز ايضا ان يكون ابن كنيعان وليس أرفخشد وكان له ولد ذكر هو عابر؛ ومنه جاء النسل العبري، وكان يعيش في بلاد بابل، غير ان الكتب اليهودية تناقلت انه رفض ان يشارك في بناء برج بابل، وكان له ولدان ذكور هما فالغ وقحطان.
أما فالغ فقد جاء في العهد القديم ان الارض انقسمت في عهده. وقد ترجم هذا الاصطلاح (الارض انقسمت) على انه الانقسام السياسي بين ابناء نوح، وبداية الصراعات بينهم، وكان ابراهيم من سلالة فالغ.
وأخيرا قحطان وقد عاش في شبه الجزيرة العربية وتولى ابناءه رعاية اسماعيل بن ابراهيم بعد ان تركه والده مع امه هاجر في ارض مكة.

وسوف نستعرض لاحقا كيفية التداخل الجغرافي السياسي العرقي الديني المذهبي، وتشابكه في بلاد منطقة ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية وارض كنعان والساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط، والتي كلها مجتمعة تدعى اليوم منطقة الشرق الاوسط.

يجب هنا الاشارة الى ان الحوبيين واليبوسيين الذين هم من فروع كنعان استوطنوا في فلسطين وأنشأوا فيها مدينة أسموها يبوس التي هي القدس اليوم، وقد قيل انها سقطت على يد الملك داود الذي سمّاها أورشاليم. وفي هذا الشأن يثار جدل كبير بين العرب واليهود حول تاريخ مدينة القدس الصحيح وسكانها الاصليين.

أما الآموريون الذين وصفهم الانجيل بالعمالقة، ربما هم نفسهم قوم عاد الذين ذكروا في القرآن مع مدينتهم ارم، فكانوا سكان شبه الجزيرة العربية والاردن وشمالي سوريا. وربما هم من ذكرهم القرآن في قصة موسى، عندما خاف أتباعه دخول اراضيهم وقالوا له "اذهب انت وربك فقاتلا انّا ها هنا قاعدون".

يقول الانجيل انهم هزموا على يد جوشوا، لأن الاسرائيليين أمروا بالقضاء على كل سكان ارض كنعان.
اشارة اخيرة الى ان حضارة عيلام والتي أنشأها عيلام ابن سام، من اقدم الحضارات البشرية وتشمل منطقة الاحواز والبصرة والكوت والعراق. غير انها قهرت على يدي ملك بابل حامورابي واضع قانون حامورابي قبل القانون الموسوي، والذي بقي محل خلاف بين الحضارات ربما الى يومنا هذا.

هذا السرد سيوصلنا الى ابراهيم الذي هو والد اسحق من السيدة العبرية سارة، ووالد اسماعيل من السيدة المصرية هاجر. وستكون لنا وقفة مع يعقوب بن اسحق الذي هو اسرائيل ومنه جاءت السلالة الاسرائيلية.
وسنستعرض أيضا سيرة اسماعيل الذي هو الابن الثاني لابراهيم، ومنه جاءت سلالة العرب التي منها جاء نبي الاسلام محمد بن عبد الله القرشي.
وسيكون لنا متابعة مع موسى وصراعه مع فراعنة مصر، وهجرته بالاسرائيليين من مصر الى بلاد كنعان وماذا حصل هناك بينهم وبين سكان بلاد كنعان الاصليين.
كما سنمر على سيرة السيدة مريم، ونذكر ولادة ونشأة المسيح، وانتشار المسيحية في المنطقة والمناطق المجاورة. وبروز الامبراطوريتان الرومانية والبيزنطية.
ثم نقف مع مجيء الاسلام، والفتوحات الاسلامية، وكيف تعاملت الاديان الثلاثة مع بعضها البعض من خلال تواجدها في منطقة واحدة.
وهذا سيقودنا الى الحروب الصليبية، ثم بروز الامبراطورة العثمانية، الى الحربين الاولى والثانية وما يجري حاليا على ارض الواقع.

سامي الشرقاوي

ليست هناك تعليقات: